1

Google

الخميس، 31 ديسمبر 2009

الرسالة الجاغميرية

سألني أحد رفاق الصبا "أو تذكر العوض ود جاغمير؟" فحرك فيّ ما ظننت أنه انطمر فأجبته: يسألونك عن العوض ود جاغمير،أذكر العوض ود جاغمير وياسين عيون وفاطنة كشات وصالح قيلاي وتلكي صالح تلكي والحنفي المكي البكري، أشخاصٌ مختلفو المشارب والشخصيات والوظائف جمعتهم الحياة بطريقة أو بأخرى. أذكرهم لأنهم يشكلون جزءاً من منظومة كبيرة تحتل مساحة واسعة من الذاكرة ، منظومة تراكمت على مدار ربع قرن من الزمان عشته في ود الحليو ، موطن العمدة على عوض عجيل كبير الحمران.
تلك القرية رغم تركيبتها التي تتسم بقدر كبير من التباين إلا أنها كانت تشكل نسيجا متماسكاً يربط الجعليين والحمران والهوسا والتكارين والإرتريين والأحباش وكلهم يعيش فيها ويأكل مما تجود به.


تلك المساحة من الذاكرة مع اتساعها تبرز فيها رموز لا يمكن أن تخفى ، رموز تشمل أشخاصاً وأبنية ومواقف وما إلى ذلك .
من أكثر المناطق اللاصقة في الذاكرة تلك السنطة الضخمة التي تقبع في مواجهة منزلنا والتي كانت تمثل مركز "سوق البهائم" وتستخدم في الصيف ظلا لرواد السوق أما في الخريف فإنهم يضطرون إلى الابتعاد عنها حيث أن دائرة كبيرة حولها تتحول إلى بركة من المياه كانت تسمى " الميعة" وبمناسبة الميعة كان هنالك نشيد من أناشيد مايو يقول " ثورة مايو البايعناها على الموت عاهدناها البيعة البيعة جددناها" وقد كان أحد إخوتي الصغار يردد"الميعة الميعة جددناها" إذ أنه لم يكن يدري ماذا تكون البيعة ، فكنا نضحك من فهمه لها.
من الشخصيات التي كانت مميزة في سوق البهائم الفحل الذي كان يكتب ايصالات شراء البهائم وأذكر أن إمرأة من اللحويين كانت تبيع أو تشتري لا أدري وسألته عن اسمه فقال لها "اسمي الفحل" فردت عليه بحياء " بري ، فحلاً على حريمك" . أم الفحل ، آمنة بنت وهب أذكر أنها قضت عندنا فترة في البيت إذ كان لدينا طفل جديد قادم (أظنه سعد) وكان الناس في السوق يغيظون بعضهم بأسماء أمهاتهم حيث أن أهل المنطقة فيهم من طباع البجا فلا يرضون أن تذكر أسماء أمهاتهم . وأذكر أن أحدهم سألني ما إذا كنت أعرف اسم أم الفحل فقلت له بكل براءة الصبية "دي ساكنة عندنا سكون" وأذكر أن الفحل كان يكررها لي كلما لقيني حتى بعد أن كبرت وتخرجت من الجامعة .
من الشخصيات الأخرى في سوق البهائم أولاد ضريس العوض ورحمة الله (تغمده الله بالرحمة) ثم أولئك الكنانة ومن بينهم حسين وكان والدي (عليه الرحمة) يسميه حسين أب بيعاً زين فكان يبتسم ابتسامة مرحة.
وفي فترة متأخرة ظهر في سوق البهائم ذلك اليماني ، باعبوس ، الذي سماه السودانيون جورا وظلما وتندرا "بعبوص" وأذكر أيضا أن اللحويين كانوا يكرهون هذا الاسم وعندما يضطرون لمناداته كانوا ينادونه "أب اسماً فَسِل". ذلك رجل عجيب فرغم ما يشاع عن غناه إلا أنه كان يأتي إلى الجزارة ليجمع الطايوق من الجزارين ومن بينهم والدي (عليه الرحمة) كما كان يجبر أبناءه على بيع الماء على ظهر الحمار .
وقد كانت من عجائب سوق البهائم عندي "أم الحسن بت عجيب" تلك المرأة التي تلبس العراقي والسروال أبو تكة والعمامة باللون الأزرق وتتمنطق بالسيف وتضع ساقا على ساق لتشرب القهوة في السوق وتبيع وتشتري في البهائم وقد كنت أنظر إليها بتعجب شديد وما زلت أتعجب منها وأتساءل ما الذي جعلها تنسلخ من هيئة بنات جنسها .
ما جعل سوق البهائم يلصق في ذاكرتي كما تعلم أن والدي (عليه الرحمة) كان جزارا ولذا كانت الجزارة مكاناً آخر له مساحة في ذاكرتي . ومن الأشخاص الذي ارتبطوا في ذاكرتي بالجزارة رغم عدم وجود صلة مباشرة له بها ، أبوصلاح وما جعله يقفز إلى ذاكرتي أنه كان عندما يمر أمام الجزارة يردد بصوته العالي بيتا من الشعر يقول :
ما حنّ حجامٌ وما حاك فاضلٌ وما كان جزار كريمُ الخصائلِ
وقد كان رموز الجزارة هم أولئك الرباطاب أولاد البدوي ، أحمد (كورة) وعبد الله ثم لحق بهم حسن على ما أذكر . وقد كان عبد الله رجلا ظريفا مرحا طيب المعشر. وأذكر أنه كان هنالك رجل غريب لا أعرف له أهلاً وكان الجميع كبارا وصغارا ينادونه عم آدم حتى كأن كلمة "عم" أصبحت جزءا من اسمه. وأذكر أنه عثر يوما على عصا من الأبنوس مما ينحته إخواننا الجنوبيون فأتى بها وأهداني إياها.
وقد كان الجزارون يعتمدون في الترويج للحومهم على السجع الذي يحاولون التفنن فيه لتزيين ما لديهم ، فإن مررت بهم سمعت : "أيوة يا علينا جاي ، كمونية تكبّر الورانية وتخلي العجوز بنية" أو "أيوة يا تعال بي جاي ، لحمة تاكلها ولحمة تاكلك" ويشير عند (لحمة تاكلها) إلى لحمته وعند (لحمة تاكلك) يشير إلى لحمة غيره.
كان هنالك في مجتمع الجزارة علوبة أيضا بقامته القصيرة الممتلئة وعبد الله ود آدم الذي تميز بقلة الكلام. وقد كان الهرم الوظيفي في الجزارة مقسما إلى ثلاث مستويات هي الجزارون أصحاب الحق يليهم الكسارون ثم يأتي في نهاية الهرم الكرشجية. وقد كنت في فترة من الفترات أبيع العظام التي لا تباع مع اللحم وأذكر أنه كان أحد زبائني من الهوسا اسمه كامل فكان يناديني "مَيْ كَشِي" ومعناها شيخ العظام ، عكس "مي ناما" وهو شيخ اللحم وهو لقب كان ينادي به أبي (عليه الرحمة).
كان هنالك عبد الرحمن البطري الذي كنت أراه دائما وفي يده آلة تشبة الزردية يسم بها آذان البهائم المستهدفة للذبح وقد تمنيت في وقت ما أن تكون لي مثل تلك الآلة حتى أقطع بها آذان بعض الذين أمقتهم.
وكان لوالدي (عليه الرحمة) خاصةٌ من أهل القرية يمازحهم ويضحك معهم فكان هنالك دفع الله قلبوس وكان يسميه "أب بُتّابة" ويعني بها أنه شخص أحمق أو "عوير" ولا أدري ما العلاقة بين البتابة والحماقة. وكان هنالك حماد شرف وكان يسميه "الضو السافر يوم عرسو" وكان هنالك القاش الذي كان يسميه "العجب أُمو" والطريفي أبو عاقلة الموظف بإدارة الري والذي كنا نستغرب تسريحة شعره العجيبة وكا ن والدي يسميه "السُّراي". (الكاشف).
ومن الطرائف التي رويتها لكثير من الناس أن إمرأة من بائعات الكسرة مرت على والدي (عليه الرحمة) في الجزارة فقالت "عمي ود العاقب عندك طايوق" فرد عليها ببديهة سريعة ونكتة حاضرة "أنا كان عندي طايوق بشتغل جزار".
إضافة إلى بيع العظام برزت لي وظيفة أخرى مع تقدمي في التعليم وهي تسجيل وتحصيل الديون حيث أن أصحاب المحلات كانوا يأتون إلى السوق في الصباح ولا تكون لديهم قروش فيأخذون اللحم بالدين ثم نقوم بتحصيله منهم في العصر بعد أن تكون أدراجهم قد امتلأت بالريالات والشلنات.
وقد كان سوق اللحم غير مستقر فأحيانا تبيع كل ما لديك في وقت مبكر وأحيانا يبقى لديك الكثير فتضطر للبقاء حتى مغيب الشمس لتحمل ما تبقى وتذهب به إلى بيتك لتأتي به في الصباح. وأذكر أن ذلك كان فرصة للتندر والتشفي بين الجزارين إذ أن من تبور لحمته يكون نهباً لألسنة الباقين. وأذكر شخصا نحيفا (كملان من لحم الدنيا) من إخواننا الإرتريين كانت له قهوة في الناحية الشمالية من السوق ، قطعاً تذكره ، اسمه دروباي. كان دروباي مولعاً بإغاظة الجزارين عندما تبور اللحوم فكان يمر من أمام الترابيز ليضربها بيده ويوقظ صاحب اللحمة الذي غالبا ما يكون في غفوة. وأذكر أن والدي (عليه الرحمة) كان يمازحه كثيرا وذات مرة عمد والدي إلى حبل (سلبة) من تلك التي تربط بها البهائم فجعلها أنشوطة ومررها من تحت تربيزة الجزارة حتى إذا جاء دروباي ووقف أمام التربيزة ليتندر على اللحمة البائرة سحب والدي الحبل لتنغلق الأنشوطة على رجل دروباي ويقع في الفخ فأصبح والدي ممسكا بالحبل ودروباي مشدودا إلى التربيزة لا يستطيع إلى فكاك سبيلا. ولم يستطع أن يتخلص إلى أن استحلف والدي بكل غالٍ.
في السوق كان هنالك دكان إدريس بربر الذي كنت أشتري منه حلاوة دربس لقربه من بيتنا ولأن إدريس بربر أقنعني أن حلاوة دربس تجعلني أنمو بسرعة ووضع لي مقياسا على باب الدكان وكان في كل مرة يوقفني عند ذاك المقياس ويقول لي "عاين أمس كنت هنا ، الليلة زدت بقيت هنا" وكنت أصدقه من كل قلبي. وكان هنالك دكان صباح الخير الذي كان يأتيني منه البنسون مجانا عن طريق إبنه نصر الدين فكنت في المساء أحمل شنطتي بزعم أنني ذاهب لأذاكر مع نصر الدين ولو أن أحدا داهمني لوجد سيجارتي قصبة لكن أهلي لم يكونوا يظنون بي كل ذلك السوء وليتهم فعلوا.
في سنوات طفولتي المبكرة كان الجزء الشرقي من السوق عالما مجهولاً بالنسبة لي لبعده عن بيتنا. لكن عندما كبرت قليلا صرت أصل إليه إذ كان فيه جمال علي الأمين الذي كان أحد أصدقائي لأكتشف بعد ذلك قهوة بر ومحل أبّنجدا وأبو الدِبَل العجلاتية ولأكتشف أن وراء هذا السوق يقع شريط من البيوت المحترمة ووراءها تمتد "الحلة" أو "الجو" حيث يدخل الناس عاقلين ويخرجون سكارى وكان معظم الجزارين من مرتادي هذه المنطقة ولهم فيها صويحبات يحملون إليهن لحمة الشية أو الجقاجق أو الكمونية كلٌ حسب مقامه.
وعلى ذكر الصويحبات تقفز إلى ذاكرتي "مريم الطريفي" التي تنسب إلى الطريفي الذي ذكرته أعلاه و "أم الطراطير" وعلك تفتيني في ماهية الطراطير التي نسبت إليها حتى صارت لها اسماً.
بجوار بيتنا كان هنالك الدونكي الذي كنا نرد إليه بالحمار لجلب الماء وأذكر أنه كانت هنالك واحدة من بنات الجبرتا اسمها جميلة ، كنت أحبها حبا طفوليا وأذكر أنها أهدتني منديلا معطراً وذهبت إلى دعوة زواج في حلة العمدة وبعد أن تغديت وعدت إلى بيتنا اكتشفت أنني أضعت المنديل في مكان الدعوة فرجعت وبحثت عنه حتى وجدته وعدت به كأنني عدت بالنوق العصافير.


كانت "هَبْرَم" أيضا من رموز ودالحليو في وقت من الأوقات وهي لوري يملكه صباح الخير وقد كانت لدينا أغنية في شكل مونولوج نغيظهم بها تقول "هبرم يالكركوبة يا الحاضرة عرس حبوبة ، دوَّرْتِك بالمنفلة كوراك ضرب في الحلة" فكانت أم صباح الخير (رحم الله كليهما) تهيج علينا وتطردنا.

من الأنشطة الهامة التي كنا نمارسها في ذلك الزمن صيد العصافير ننصب لها فخاخا تختلف أشكالها والمواد المصنوعة منها وطريقة نصبها. أكثر المواد شيوعا كان الشعر (السبيب) المأخوذ من ذيل حمار حيث يتم جدل شعرتين مع بعضهما وصنع أنشوطة منها وبعد ذلك يتم ربط تلك الأنشوطات على خيط من الدوبارة غالبا بمسافات معقولة بينها ويربط رأس الخيط بمسمار يغرس في الأرض حتى لا ينتزع العصفور الشَرَك من الأرض ويطير به. وكانت هنالك القلوبية التي هي عبارة عن حلقتين من السلك القوي يربط بينهما زنبرك وتنصب منفتحة ولها إبرة تحول دون إنغلاقها ويحمل رأس الإبرة حبة من الذرة وعندما ينقر الطائر على حبة الذرة تنفلت الإبرة لتنغلق الحلقتان على رجل الطائر أو حتى عنقه. وكان هنالك الكفّاي وهو طست أو ما شابهه نقلبه على وجهه على الأرض ونرفعه عنها من جانب واحد بعود مربوط إلى حبل يمسك بطرفه شخص يختبئ في مكان قريب ونشتت تحته شيئا من الذرة وعندما تدخل العصافير تحته لتأكل الذرة يسحب الصائد الحبل فيسقط الطست على العصافير. وكان هنالك أيضا الكواش وهو عصا مربوطة أيضا على حبل يمسكه الصائد حتى إذا دخلت العصافير في نطاقه سحب الصائد الحبل بكل قوته فيضرب العود العصافير فيتركها بين مكسورة الجناح ومكسورة الرجل وحتى مكسورة الرقبة.
وكنا عندما نشتت الذرة على الفخ نقرأ ما يشبه التعويذة أذكر منها "شلغوم شلغوم شَرَكي الملغوم" ولم أفهم معنى كلمة ملغوم إلا في وقت متأخر . وكنا أيضا نغني للطير أغاني مثل "تلّة تلّة في المتلة ، حمد أب سيف قال ليك إتدلى ، بت الحلال فيكم تَرِك توريكم وبت الحرام فيكم تطير تخليكم" والمتلة للعلم هي الموضع الذي تنصب فيه الفخاخ وحمد أب سيف هو طائر صغير له ذيل طويل جداً يلوّح به عندما يطير.

بعد أن نجمع حصيلتنا من الطير نذهب إلى بيوتنا ونقصد مكانا واسعا في الحوش لذبح الطيور ويتم الذبح بطريقة لا أدري من أين جاءت وهي إمساك رأس الطائر باليد اليمنى وجسمه باليد اليسري ثم نقول "الله أكبر ضبح الطير قَبْ حلال لي ولي الياكل معاي" ثم نشد بسرعة لينفصل رأس الطير عن جسمه. بعد ذلك نشوي تلك العصافير على الجمر .
كان والدي يحب تربية الكلاب وأول ما أذكره كلبان توأمان اسمهما ( جيمس وتيمس) لونهما أبيض وعليهما بقع صفراء باهتة وقد عاشا في بيتنا زمنا لا أدريه لكن ما أذكره أنهما كبرا فمات أحدهما وفقد الآخر القدرة على الإبصار فصار يهيم على وجهه ونكلف نحن بملاحقته وإعادته إلى البيت وكان مهمة شاقة أن تبحث عن كلب أعمى في قرية تشتبك شوارعها وبيوتها مثل بكرة خيوط عبث بها طفل شقي. وفي النهاية عندما رأي والدى أن الأرحم لذلك الكلب أن يموت ربطه في البيت واستدعى شرطيا لا أذكر اسمه فجاء يحمل بندقيته وأُجلس جيمس على الأرض ليتلقى رصاصة الرحمة بصدره.
بعد جيمس وتيمس جاءت كلبة اسمها (نحلة) ، كانت صغيرة وفتية ونباحة لكنها كانت "شليقة" في نفس الوقت ولعل تلك الشلاقة هي التي أرسلتها إلى الآخرة إذ أنها سطت ذات يوم على حليب في البيت فقتلت شر قتلة.

نشرت في موقع سودانيزأونلاين في يوم 25/11/2006 على هذا الرابط: الرسالة الجاغميرية


1 تعليقات :

لله درّك يا ود الجــزار ...

ولئن قيل أن خيال الشعر يرتاد الثريا ..
فروعــة الســرد لا تقــل عنـه تحليقا ..

فها أنذا أقف تحت تلك السُنْطَة المهيبة أمام منزلكم العامر – بفعل عطرابة الشوي وما يترتب عليها – مستأنساً بتلك الجلبة التي تصدرها البهائم جراء تلك الأجراس المتدلية من على رقابها وقد اختلطت بأصوات أصحابها وفرقعة سياطهم ..

وجلسنا حول الفحل وهو يُحرر الإيصالات لهذا وذاك، وقد مازحه أحدهم قائلاً:"آآزول ألكع حرر لينا إصالنا قبل ما الزول دا إرجع في كلامو"، وشربنا القهوة مع المسترجلة أم الحسن بت عجيب، التي ذكرتني بنظيرة لها في مدينة سنار تدعى "دولـــة"، فهي بحق دولة كما أسمياها والداها، لها كامل السيادة على أراضيها، امتهنت مهنة "جــزّارة" تضبح التور وتكسرو براها، تسف السعوط وتقهقه بأعلى صوتها كما الرجال وتركب العجلة وتقوم سَدَّاري، وبمعية زمرة من رجال غلب غلاظ الطباع ترتاد الأنادي، تلبس الجلاليب والبناطلين وتعصب رأسها بعصابة مثلما يفعل المحاربون القدامى، وهي على تلك الثياب لن يَتبَيّنْ لك أنها من بنات حواء بل وفتاة بالشمع الأحمــر مختومة، إلا إذا همس أحدهم في أذنك – خشية أن تسمعه فتفتك به – يا زول هوي دي بت .. !!

بلغنــي - بعد أن تركنا مدينة سنار واستقر بنا المقام في وطننا الصغير الكاملين- أن هناك فَحْــــلٌ تحللها واستباح حرمة أراضيها، وبعد أن كانت شرسة متوثبة وعنيفة تشتم فيها رائحة الدم الغير لطيفة من على بعد مسافات ليست بالقريبة، أضحت لبعلها مهرة ذلول ومطيعة ولبنات جنسها رُدّت رداً جميلا وبقت تِتكبرَتْ وتتدخَّن وتدَلّكْ مِتل النسوان وأظنها أكثرَتْ من الكمونية البتكبـِرْ الوَرانيَّة – على حد تعبير أهلك في ود الحليو- وهاك يا كحل وغنج ودلال ومعسول كلام وعلى شفتيها ترسم أحلى الابتسامات ممزوجة بحالم النظرات، بعد أن كانت تحلف بالطلاق وتنظر إليك شذرا ومثل الصقر تحدَّق فيك تحديقا، فتعجبتُ أشد العجب وقلت سبحان الله مغير الأحوال من حال إلى حال. والشيء الذي أكده هذا الفحل أن مقولة: الفحـــل ما عَـــوّاف، حقيقة معاشة وليست أوهام أو هضربة وهذيان وأن الهيمنة الذكورية على هذا الكوكب لا تزال لأبناء آدم عليه السلام .. وفي هذا عزاء وتطمين للذين يعانون من فوبيا النساء بأن بزوغ نجم سعدهن في قبة السماء أضغاث أحلام .. !!

فلنترك هذا الاستطراد جانباً ولنعُد لرسالتنا الجاغميرية ..

وكما قلت أنت في مستهلها "فحرك فيّ ما ظننت أنه انطمر .. "، أحب أن أعبر عن عميق شكري وامتناني لصديقك الذي سألك ذاك السؤال الذي تمخض عنه هذا السرد الدقيق والتصوير القصصي الرائع فكانت الرسالة الجاغميرية مستعرضةً تلك المحطات، والتي أعتقد جازماً من أنها ستحرك في كل من يطلع عليها أشياء ظنها انطمرت وفي سرادق عالم النسيان اندثرَتْ، وحتماً سيستمتع باجترار ذكريات ماضٍ غابر ليس إليه من سبيل إلا عن طريق استدعائه بملكة تعبير وروعة تصوير وخيال يرفرف بهما في فضاءات الأثير. والذي يجعلني أجزم بذلك - وإن تحدثت الرسالة الجاغميرية عن قرية بعينها وهي قرية ود الحليــو- هو أن هذا المجتمع تجد له صورة تكاد تكون طبق الأصل في كل بقاع السودان مع اختلاف في أسماء الأشخاص وتفاصيل التفاصيل.

الرسالة الجاغميرية .. قمت بطباعتها وأديتا لود أختي، ذو الأربعة عشر خريفا والذي ولد ونشـأ وترعرع فـي السعودية – ولطالما جادلته عن هسه وزمان- وقلت ليهـو كدي أقـرا الكلام دا وأديني رايك، وبعد أن فـــرغ مـن قـراءتها قال لـي: "الله يا خالو .. الزول دا عاش فترة صِبَا حلــوة خلاص".

ولا أجد أروع وأبلغ من هذا التعبير البريء العفوي في وصف رسالتك الجاغميرية ..

جعل الله كتاباتك كلها جاغميرية ..

ثم أنني يا ود الحليو وبباقي تلك العصرية وَقبـَيْل دخول المُغْرِبيَّة .. ذهبتُ أسترق السمع لنحاس العمدة علي عُوَض عجيل، ويا زول لما سمعت ليك " بَدُور الـدّم ، بَدُور الـدّم" .. شعرت بالدم يغلى فـي عروقي ودخلت فـي حالـة عنتريّة وصـدرت منـي حـركات أفعوانيـة عدائيـة لا إرادية، وحمدتُ الله كثيراً أن الكفيل لم يمر من أمامي وبتلك العنجهية المفرطة قالي: يلا أبغــى هــذي بسرعــة ..

كـُتْ – وحات نحاس العمدة، وأنا على تلك الحال والصفة – مسحت به الأرض مسحا ولوجدت نفسي أواجه واقع أني مجرّد ذلك الوافد المقيم الذي ينطبق عليه قـول الشاعر، وأظنه المنخل اليشكري:

فإذا شربت فإنني رب الخورنق والسُدَيْر
وإذا صحوت فإنني رب الشويهة والبعير
وعلى نفس المنوال أقول:
فإذا سمعت النحاس فإنني رب هذه التخوم
وإذا عم السكون فإنني ذاك الوافد المذموم

دحين آآخوي زحنا من نحاس العمدة قبل ما نجيب لينا كـُـبَّه ومن الضُلمَّه على بيوتنا .. أرح كاكا نتلما.

وحتماً لمدونتك لي عودة إن شاء المولى ..

ولك مني يا ترجمان كل مودة ..

ود الكاملين
محمد ود رجب التوم

إرسال تعليق