"كان ميلاد بغداد معلماً في الحضارة العالمية"
• كتبه: جاستن ماروزي – 16 مارس 2016م
• ترجمه إلى العربية: أبوبكر العاقب
كان إنشاء مدينة أبي جعفر المنصور الدائرية في عام 762م علامةً باهرة في تاريخ التصميمات الحضرية. وقد تطورت المدينة لتصبح مركز العالم. إذا كانت بغداد تشكل اليوم مثالاً حياً للتآكل الداخلي والعنف غير المسبوق فإن تأسيسها قبل 1250 عاماً كان علامة باهرة في تاريخ التصميم الحضري. وعلاوةً على ذلك فقد كانت علامة في الحضارة وميلاداً لمدينة سوف تصبح بشكل متسارع المنارة الثقافية للعالم. وبخلاف الاعتقاد السائد فإن مدينة بغداد قديمة لكنها لا تعتبر أثرية.
تأسست المدينة في عام 762م على يد الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور كعاصمة جديدة للإمبراطورية الإسلامية. وبمقاييس بلاد الرافدين فهي مدينة حديثة العهد بالمجد ومبتدئة مقارنةً بمدن نينوى وأور وبابل (التي تأسست في الألفية السابعة والرابعة والثالثة قبل الميلاد على التوالي).
وتبدو بغداد فتية ًعند مقارنتها أيضاً بمدينة أوروك أحد التجمعات الحضرية في بلاد الرافدين والتي كانت، في حدود 3200 سنة قبل الميلاد، أكبر تجمع حضري في العالم حيث بلغ عدد سكانها 80,000 نسمة. ويعتقد البعض أن الاسم العربي لبلاد بابل وهو العراق مشتق من اسم أوروك.
تتوفر اليوم معلومات ضافية عن تخطيط المدينة الدقيق والبديع بفضل السجلات المفصلة لعملية إنشائها. وعلى سبيل المثال تخبرنا تلك السجلات بأن المنصور أثناء بحثه عن موقع لعاصمته الجديدة وهو ينتقل على نهر دجلة من مكان لمكان بحثاً عن موقع ملائم نصحته بالموقع الجيد ذي المناخ الطيب جالية من الكهنة النسطوريين الذين أقاموا في المنطقة قبل المسلمين بعهود بعيدة.
ووفقاً للجغرافي والمؤرخ العربي من القرن التاسع عشر المعروف باسم اليعقوبي صاحب كتاب "معجم البلدان"، فإن موقعها الملائم للتجارة على نهر دجلة وقريباً من نهر الفرات وفر لها الإمكانيات التي تؤهلها لأن تصبح ملتقى الطرق العالمية. وتمثل هذه العبارة شهادة بأثر رجعي لأن بغداد، مدينة السلام، في الوقت الذي كتب فيه اليعقوبي كتابه أصبحت مركز العالم وعاصمة دار الإسلام الدولة المجيدة وموئل العلماء والفلكيين والشعراء وعلماء الرياضيات والموسيقيين والمؤرخين واللغويين والفلاسفة.
وبمجرد موافقة المنصور على الموقع تركز الجهد على تحديد التصميم المطلوب للمدينة. ومرةً آخرى تخبرنا السجلات بأن تلك المهمة كانت من إنجاز الخليفة نفسه. وقد كان العاملون، تحت إشرافه المباشر، يخططون خريطة مدينته الدائرية على الأرض بخطوط من الرماد. وجاء الشكل الدائري المحكم تقديراً لعالم الرياضيات إقليدس الذي كان الخليفة دارساً له ومفتوناً به.
بعد ذلك تجول الخليفة في تلك الخريطة المسطحة وأعطى موافقته وأمر بوضع كرات من القطن المبلل بالزيت على كامل حدود المدينة وإشعالها لتوضيح موقع السور الخارجي المزدوج والمحصن.
وفي يوم 30 يوليو 762م، اليوم الذي حدده فلكيو الخليفة على أنه أكثر الأيام يمناً وبركة لبدء العمل، صلى المنصور لله ووضع حجر الأساس الاحتفالي وأوصى العمال المتجمهرين بالإجتهاد في العمل.
لقد شكّل حجم هذا المشروع الحضري الضخم أحد أهم النواحي المميزة في قصة بغداد. وكانت الدائرة التي يبلغ محيطها أربعة أميال وجدران الطوب المهيبة التي تنهض من ضفاف نهر دجلة تمثل السمة الشخصية لمدينة المنصور. ووفقاً للعالم الخطيب البغدادي الذي عاش في القرن الحادي عشر، والذي يعتبر كتابه "تاريخ بغداد" كنزاً من المعلومات عن إنشاء المدينة، فإن كل مدماك يتكون من 162,000 طوبة للثلث الأول من ارتفاع الجدران و150,000 للثلث الثاني و140,000 للجزء الأخير وكلها مربوطة بمجموعة من الروابط.
ويبلغ ارتفاع الجدار الخارجي 80 قدماً تعلوه فتحات وتتوزع عليه الحصون. ويحيط بالجدران الخارجية بالكامل خندق مائي. لقد كان حجم القوى العاملة نفسه ضخماً بصورةٍ مذهلة حيث تم استقدام آلاف المعماريين والمهندسين والخبراء القانونيين والمساحين والنجارين والحدادين والحفارين والعمال العاديين من مختلف أنحاء الإمبراطورية العباسية. قامت هذه القوة العاملة في البدء بإجراء المسوحات والقياسات وحفريات الأساسات. وباستخدام الطوب المجفف بالشمس أو المحروق بالحجر الجيري الذي كان يستخدم مادةً للبناء في سهل بلاد الرافدين الذي كان يغمره الفيضان النهري مع عدم وجود المحاجر، ارتفعت الجدران الشبيهة بالحصن طوبةً طوبةً.
لقد كان ذلك أضخم مشروع إنشائي في العالم الإسلامي: وأورد اليعقوبي أن 100,000 عامل شاركوا في إنجاز المشروع. جسّد التصميم الدائري للمدينة إبداعاً أخاذاً. "يقولون أنه لا توجد أي مدينة دائرية في أي منطقة من العالم" كتب الخطيب معززاً ذلك.
كانت هنالك أربع بوابات بمسافات متساوية بينها على سور المدينة وطرقات مستقيمة تقود منها إلى وسط المدينة. كان باب الكوفة إلى الجنوب الغربي وباب البصرة إلى الجنوب الشرقي يفتحان على قناة سرات وهي جزء أساسي من شبكة المجاري المائية التي تصرّف مياه الفرات إلى دجلة لتجعل هذا الموقع شديد الجاذبية. وتقود بوابة الشام الواقعة إلى الشمال الغربي إلى الطريق الرئيسي إلى الأنبار وعبر الأراضي الصحراوية إلى سوريا. أما إلى الشمال الشرقي فتقع بوابة خراسان القريبة من نهر دجلة والتي تقود عبر النهر إلى جسر القوارب. وخلال الفترة الأطول من حياة المدينة ظل العدد المتذبذب من هذه الجسور المكونة من قوارب صغيرة مربوطة ببعضها ومثبتة إلى الضفة تشكّل أحد المظاهر الجذابة والساحرة لمدينة بغداد. ولم تكن هنالك أي إنشاءات ثابتة حتى وصول البريطانيين في القرن العشرين حيث أنشأوا جسراً حديدياً عبر نهر دجلة.
توجد غرفة حراسة فوق كل واحدة من البوابات الخارجية الأربع. أما الغرف الموجودة على الجدران الرئيسية الأعلى فتعطي إطلالة كاملة على المدينة ومسافة عدد من الأميال من بساتين النخيل والحقول الخضراء الزمردية التي تلامس مياه نهر دجلة. لقد كانت غرفة المشاهدة الرئيسية أعلى غرفة الحراسة فوق بوابة خراسان المكان المفضل للخليفة المنصور يرتاح فيها بعد الظهر من الحرارة الخانقة.
الطرق الأربعة التي تتجه إلى وسط المدينة من البوابات الخارجية مغطاة بأروقة مقوسة وتضم محلات التجار والأسواق. وتتفرع عن هذه الطرق شوارع أصغر لتصل إلى عدد من الميادين والمساكن تشكل المساحة المحصورة بين السور الرئيسي والسور الداخلي والتي جاءت استجابة لرغبة المنصور في الحفاظ على قلب المدينة كمنطقة سلطانية خاصة. يضم مركز مدينة بغداد منطقة كبيرة مغلقة ربما يبلغ قطرها حوالي 6,500 قدم تقع في قلبها المنطقة السلطانية المحمية. أما الجوانب الخارجية لهذه المنطقة فقد كانت محجوزة لأبناء الخليفة ومساكن لموظفي الخليفة وخدمه ومطابخ الخليفة ومساكن للخيالة وغيرها من دواوين الدولة.
ويعتبر مركز هذه المنطقة خالياً تقريباً باستثناء مبنيين هما أجمل مباني المدينة؛ المسجد الكبير وقصر البوابة الذهبية الخاص بالخليفة مما يعد تعبيراً إسلامياً كلاسيكياً عن ارتباط السلطتين الدينية والدنيوية. ولم يسمح الخليفة المنصور لأحدٍ سواه بالركوب في هذه المنطقة سواه وشمل ذلك عمه المصاب بداء النقرس الذي طلب الإذن له بذلك على أساس علته الجسمانية.
ولعلنا نشعر بالتعاطف مع عم الخليفة المتقدم في السن. ودون أن يتأثر باحتجاجات الشيخ المبنية على ضعف أطرافه أجاب المنصور بأن من الممكن حمله على محفّة وهي الوسيلة التي كانت شائعة الاستخدام للنساء. "سأستحي من الناس" أجاب عمه عيسى. فرد الخليفة بقسوة "لم يبق أحد تستحي منه".
كان قصر الخليفة مبنىً مميزاً على مساحة 360,000 قدم مربع وأكثر ما يميزه تلك القبة الخضراء بارتفاع 130 قدم فوق غرفة النظارة مباشرةً والتي يمكن رؤيتها من مسافة عدة أميال يعلوها تمثال لخيّال في يده رمح. وقد أشار الخطيب إلى أن التمثال كان يدور على محوره مثل أداة اتجاه الرياح موجهاً رمحه إلى الاتجاه الذي سيأتي منه أعداء الخليفة في المرة القادمة. أما مسجد المنصور الكبير فقد كان أول مسجد في بغداد ويقوم على مساحة شاسعة تبلغ 90,000 قدم مربع ليشكل رمزاً لطاعة الله ويبلّغ رسالةً بأن العباسيين هم أقوى عباد الله وأعلاهم على الأرض.
بحلول عام 766م كانت مدينة المنصور الدائرية قد اكتملت. واجتمع الرأي العام على أنها تشكل نصراً كبيراً. وقد أفاض الكاتب متعدد الثقافة واسع الإطلاع الجاحظ في وصفها إذا قال "قد رأيت المدن العظام، و المذكورة بالإتقان والإحكام، بالشامات و بلاد الروم، و في غيرها من البلدان، فلم أر مدينة قط أرفع سمكاً، ولا أجود استدارة، ولا أنبل نبلاً، ولا أوسع أبواباً، ولا أجود فصيلاً من الزوراء، وهي مدينة أبي جعفر المنصور" وقد كان أكثر ما أدهشه الشكل الدائري للمدينه فوصفه قائلاً: "كأنما صبت في قالب، وكأنما أفرغت إفراغاً".
لقد أُزيلت آخر أثار مدينة أبي جعفر المنصور الدائرية في سبعينيات القرن التاسع عشر عندما هدم مدحت باشا، الحاكم العثماني الإصلاحي، أسوار المدينة في حمّى التحديث التي كانت تسيطر عليه. ومنذ ذلك العهد تعوّد أهل بغداد على إبعادهم من مركز عاصمتهم المنعّم.
وكما كان محظوراً على أهل بغداد الوصول إلى الحرم الداخلي للمدينة تحت حكم أبي جعفر المنصور فقد حدث نفس الشيء لمواطني المدينة في القرن العشرين والذين استُبعدوا من وسط المدينة بعد اثني عشر قرناً تحت حكم صدام حسين. لقد أصبحت منطقة "كرادة مريم" المحروسة بشكل مكثف والتي تقع إلى الجنوب قليلاً من المدينة الدائرية الأصلية على الضفة الغربية، المقر الرئيسي للنظام وآلة ضخمة تعمل بدقةٍ فائقة للترويع والسيطرة والقتل باستخدام العديد من المؤسسات الأمنية التي جعلت البلاد تفترس نفسها.
أما تحت الاحتلال الأمريكي في عام 2003م فقد تحول قلب المدينة إلى المنطقة الخضراء المحصنة بشكل أكبر لتصبح أسوأ مكان بدرجة خيالية يغطي ستة أميال لا يرحب بالعراقيين في قلب عاصمة بلادهم.
أما الآن وبعد اثني عشر عاماً أصبحت المنطقة الخضراء مفتوحة للعراقيين مرةً أخرى. لكن وكما هو الحال في تاريخهم الدامي بشكل غير عادي لا يجد العراقيون الكثير ليستبشروا به في بلاد تتمزق.
وتبقى مدينة بغداد العظيمة لكن أهلها يعودون مرةً أخرى ليغلفهم العنف المريع.
جاستين ماروزي مؤلف كتاب: "بغداد: مدينة السلام، مدينة الدم" وهو الكتاب الحائز على جائرة الجمعية الملكية للأدب في أيرلندا لعام 2015م
2 تعليقات :
تعليق تجريبي
تعليق تجريبي
إرسال تعليق