1

Google

الخميس، 4 فبراير 2021

أكويكي - قصة قصيرة - شينوا أشيبي

أكويكي

الروائي النيجيري: شينوا أشيبي

ترجمة: أبوبكر العاقب

ترقد أكويكي على سرير مرضها على أحد جوانب جدار العزلة الذي قام فجأة بينها وبين إخوتها. تستمع إلى همهمتهم ويعتريها الخوف. لم يخبروها بعد بما يجب عمله، لكنها تعلم. رغبت أن تطلب منهم أخذها إلى جدهم لأمهم في "إيزي" لكن العزلة التي قامت بينها وبينهم كان بالغةً حتى أن كرامتها منعتها أن تطلب منهم شيئاً. فليفعلوا ما يشاءون. البارحة أراد أوفوديل، أكبرهم، الحديث لكنه وقف فقط ونظر إليها وعيناه مغرورقتان بالدموع. على من يبكي؟ فليذهب إلى الجحيم.

                خلال الغفوات المتقطعة التي دخلت فيها لاحقاً ذهبت أكويكي بعيداً إلى مسكن جدها في "إيزي" دون حتى أن تتذكر مرضها. عادت جميلة القرية مرةً أخرى.

                كانت أصغر أطفال أمها والبنت الوحيدة. عاشت بين ستة إخوة بعد مات والدها وهي ما زالت في سنيها الأولى. لكن أباها رجلاً عاقلاً حيث أن عائلته حتى بعد وفاته لم تشعر بالحاجة قط خصوصاً وأن بعض أبنائه صاروا يفلحون مزارعهم الخاصة بهم.

                كل سنة تصطحب أم أكويكي أطفالها لتزور أقاربها في "إيزي" في رحلة تستغرق يوماً كاملاً من "أوموفيا" حسب قدرة الأطفال على المشي. بعض الأحيان تمتطي أكويكي ظهر أمها وتمشى أحياناً أخرى. مع ارتفاع الشمس قليلاً تنتزع أمها قليلاً من فروع الكسافا من جانبي الطريق لتغطي بها رأسها.

                تنتظر أكويكي مثل هذه الزيارات إلى جدّها؛ ذلك الرجل الضخم ذو الشعر واللحية البيضاء. يمشط في بعض الأحيان لحيته في شكل حبل ينتهي بطرفٍ مستدق يقطر منه نبيذ النخيل إلى الأرض عندما يشرب. ظلّ ذلك المنظر مثار دهشةٍ دائمةٍ بالنسبة لأكويكي. يدرك الرجل العجوز ذلك فيجز على أسنانه بين جرعات النبيذ.

                كان مغرماً بحفيدته التي يقولون إنها صورة من أمه. نادراً ما يناديها باسمها أكويكي وإنما كان نداؤه لها دائما "أمي". كانت أمه في الواقع أكبر النساء سناً التي بقيت في دور الحياة. أثناء زيارة "إيزي" أدركت أكويكي أنها يمكن أن تفلت من كل شيء حيث أن جدها كان ينهى الجميع عن توبيخها.

                تعالت الأصوات وراء الجدار. ربما هم بعض الجيران يتشاورون مع إخوتها. إذن، فالجميع يعلم بالأمر الآن. فليذهب الجميع إلى الجحيم. لو أنها لها قدرة لنهضت وطاردتهم جميعاً بتلك المكنسة القديمة الملقاة قريباً من مرقدها. تمنت لو أن أمها ما تزال على قيد الحياة. لو أن أمها موجودة لما شهدت ما تشهده الآن.

                توفيت أمها قبل عامين ونقل جثمانها إلى "إيزي" لتدفن مع أهلها. قال الرجل العجوز الذي شهد الكثير من الأحزان "لماذا يأخذون أولادي ويدعونني أنا؟" لكنه قال للمعزين في يوم من الأيام "نحن أطفال الله. قد يختار أحيانا الصغار منا ليأكلهم ويختار أحياناً أخرى الكبار". مرت تلك المشاهد بخاطر أكويكي حيةً ومشرقةً حتى أوشكت أن تنخرط في البكاء. ماذا سيقول الرجل العجوز حين ينقل إليه الناعي نبأ وفاتها المشينة.

                أتاح بلوغ أكويكي لها الرقص أمام العامة في فصل الجفاف بعد وفاة والدتها. أشاعت أكويكي شعوراً جميلاً برقصها وتزايد عدد خاطبيها عشر مرات. جلب الرجال نبيذ النخيل لوالدها من مختلف الأسواق. لكن أكويكي ردتهم جميعاً. بدأ إخوتها يشعرون بالانزعاج. جميعهم يحبون أختهم الصغيرة وخصوصاً بعد وفاة والدتهم فبدا أنهم يتنافسون بينهم في السعي إلى إسعادها.

                أما الآن فإنهم منزعجون لأنها ترفض الفرص المتاحة لها لزواجٍ جيد. قال لها أخوها الأكبر، أوفوديل، بأقصى درجة من الصرامة يملكها أن الفتاة المتكبرة التي ترفض كل خاطبٍ يتقدم لها سيؤول حالها إلى الحزن مثلما حدث مع الفتاة "أونويرو" في تلك القصة والتي رفضت كل رجل تقدم لها لكنها في النهاية وجدت نفسها تطارد ثلاث سمكاتٍ بدت لها في شكل شباب أنيقين لتستدرجها إلى التهلكة.

                لم تستمع أكويكي لتلك الخطب. أما الآن وقد يئست الروح التي كانت تحميها ورفعت يدها عنها فقد أصابها هذا المرض. في البدء تظاهر من حولها أنهم لم يلاحظوا البطن المنتفخ.

                جلبوا لها المعالجين من أماكن بعيدة لمعالجة علتها. لم تؤد الأعشاب وجذور النباتات التي قدموها لها أي نتيجة. أرسل "آن آفا أوراكيل" إخوتها بحثاً عن شجرة نخيل معينة تطوقها كرمة. "عندما ترونها" قال لهم "خذوا منجلاً وقصوا ذلك النبات المتسلق الذي يخنقها. وبذلك ستتحرر أختكم من تلك الأرواح التي تسكنها". بحث الإخوة في "أوموفيا" والقرى المجاورة لثلاثة أيام قبل أن يعثروا على نخلةٍ بذلك الوصف ويحررونها. لكن أختهم لم تتحرر وعوضاً عن ذلك ساءت حالتها.

                أخيراً تشاوروا بينهم وقرروا بقلوب مثقلة بالأسى أن أكويكي أصابها مرض الاستسقاء الذي يمثل رجساً في هذه الأرض. أدركت أكويكي الغرض من المشاورات الجارية بين إخوتها. وبمجرد أن دخل أخوها الأكبر غرفة مرضها بدأت بالصراخ في وجهه فاندفع خارجاً. استمر ذلك طوال اليوم وكان هنالك خطر حقيقي ماثل أن تسلم روحها في هذا البيت فتجلب غضب ونقمة "آني" على كل الأسرة وربما على القرية بأسرها. زارهم الجيران محذرين الإخوة من الخطر الماحق الذي يعرضون له قرى "أوموفيا" التسع.

                في المساء حملوها إلى الأحراش الموحشة. بنوا لها مأوىً مؤقتاً ووسدوها فراشاً خشناً. كانت صامتةً وقد بحّ صوتها من الصراخ كما أن مقتها لهم منعها الحديثَ معهم، تركوها هناك وانصرفوا.

                في الصباح ذهب ثلاثةٌ من الإخوة إلى الأحراش ليروا إن كانت ما تزال على قيد الحياة. كانت صدمةً صاعقةً لهم أن وجدوا المكان خالياً. ركضوا كل المسافة إلى القرية لإخبار الآخرين ليعودوا جميعاً ليشرعوا في البحث في الأحراش. لم يكن هنالك أي أثر لأختهم. من الواضح أن الضواري أكلتها وهو أمر يحدث أحياناً في مثل هذه الحالات.

                انقضى شهران أو ثلاثة ليرسل جدهم رسولاً إلى "أوموفيا" ليؤكد له ما إذا كانت أكويكي قد ماتت بالفعل. كان جواب الإخوة بالإيجاب فعاد الرسول أدراجه إلى "إيزي". بعد أسبوعين أرسل الرجل العجوز رسالة يأمر فيها جميع الإخوة بالحضور لمقابلته. كان ينتظر في مظلته عندما وصل أحفاده. بعد الاستقبال الرسمي الباهت بسبب انشغالهم بفقدهم سألهم عن مكان أختهم. سرد له أكبرهم قصة وفاة أكويكي. استمع الرجل العجوز للرواية حتى نهايتها مسنداً رأسه إلى راحة يده اليمنى.

                "إذن لقد ماتت أكويكي" قال بصيغة تراوحت بين التساؤل والتقرير. "ولماذا لم ترسلوا لي لتخبروني بوفاتها؟" خيم الصمت لبرهة ثم قال الأخ الأكبر أنهم أرادوا أن ينتهوا من مراسم التطهير. جزّ الرجل العجوز على أسنانه ثم نهض بصعوبة وهو منحني الظهر ليتقدم مترنحاً نحو غرفة نومه ويزيح الباب المنقوش ليظهر شبح أكويكي منتصباً أمامهم متجهماً وقاسياً. قفز الجميع واقفين وهرب اثنان منهما خارج الغرفة.

                "عودوا إلى هنا" ناداهم الرجل العجوز بابتسامة يشوبها الحزن. "هل تعرفون هذه الفتاة؟ أريد إجابة منكم. أنت يا أوفوديل، أنت أكبرهم، أريدك أن تجيب على سؤالي. من هذه؟"

                "إنها أختنا أكويكي".

                "أختكم أكويكي؟ لكنكم أخبرتموني لتوكم أنها توفيت بمرض الاستسقاء. كيف يمكن أن تموت ثم تكون هنا؟" خيم الصمت. "إذا كنتم تجهلون ما هو مرض الاستسقاء، فلمَ لم تسألوا العارفين؟"

                "استشرنا المعالجين المعروفين في كل منطقة "أوموفيا" و "أبامي".

                "لماذا لم تأتوا إلىّ هنا؟" خيم الصمت.

                بعد ذلك أوجز الرجل العجوز ليبلغهم أنه استدعاهم جميعاً ليخبرهم أنه بدءً من ذلك اليوم ستصبح أكويكي ابنته وسيتحول اسمها إلى "ماتيفي". لن تعود فتاةً من فتيات "أوموفيا" وإنما ستصبح من فتيات "إيزي". كانوا ينظرون أمامهم وقد ألجمهم الصمت فلم ينبسوا ببنت شفة.

                "وعندما تتزوج" ختم الرجل العجوز خطبته "سأدفع أنا مهرها وليس أنتم. أما بالنسبة لشعائركم التطهيرية فبإمكانكم الاستمرار فيها لأن أكويكي قد ماتت فعلاً في "أوموفيا".

                ودون أي كلمة وداع لإخوتها انصرفت ماتيفي عائدةً إلى داخل الغرفة.

 

0 تعليقات :

إرسال تعليق