1

Google

الخميس، 31 ديسمبر 2009

ود الحليو مرةً أخرى ...

ود الحليو مرةً أخرى: نحاس العمدة وحبوبة قماشة والمدرسة ،،،،
1. نحاس العمدة.
النحاس عبارة عن طبل. والطبل معروف في الثقافة الأفريقية فهو يستخدم كوسيلة اتصال وكإيقاع للرقص تعبيراً عن الفرح وعن الحزن. وما النقارة والدلوكة والشَتم إلا أنواع من الطبول اختلفت أسماؤها ربما لاختلاف أشكالها أو لاختلاف الثقافات التي نشأت فيها. وقد جاءت تسمية النحاس من كونه إناءاً ضخماً من معدن النحاس شبيه بالقِدْرمغطي من أعلى بالجلد.

وقد ارتبط النحاس تاريخياً بالحرب والقتال والشجاعة والثبات أمام الأعداء وتفخر قبائل كثيرة بالنحاس الخاص بزعمائها والذي يضرب استنفاراً للرجال إلى غارة أو صد غارة أو يضرب لتبليغ خبر وفاة مثلاً. وقد كان أبلغ الذل أن تغير قبيلة على أخرى فتسلبها نحاسها.

ولهذا السبب فإن هنالك الكثير من الأساطير التي تروى عن نحاس قبيلة أو أخرى مثل أن تحكي قبيلة أن زعيمها كان يسير ليلاً فقابله جنّي فقاتله وهزمه فأهداه الجنّي ذلك النحاس. وينطبق نفس القول على السيوف التي كثيراً ما نسمع في رواياتها عن سيف الصاقعة وهو سيف يقال أن حديده يهبط من السماء مع الصاعقة ويقوم الرجل الشجاع المقدام بالحفر في مكان الصاقعة ليستخرج ذلك الحديد فيصنع منه سيفاً بتاراً. وقد ورد ذلك في الغناء الشعبي حيث قال الشاعر أو الشاعرة:

سيف الصاقعة ولدي الما بدور سَنّة

نحاس العمدة على عُوَض عجيل لم يخرج عن هذا الإطار. وعندما نشأنا نحن لم تكن هنالك غارات ولا حروب ولكن النحاس كان يضرب في مناسبات الفرح والحزن فيبكي كبار السن ربما بسبب المناسبة نفسها أو ربما أنهم يتذكرون أياماً خلت كانت فيها نقرة النحاس مختلفة تماماً عن ما يعيشونه في تلك اللحظة إذ قد تذكّرهم بصولات كانت لهم في غابر الأيام.

وأكثر ما أذكره عن نحاس العمدة أنه كان يضربه العم حسن عمر وهو رجل نحيف تراه يحمل في كلتا يديه عصاتين رفيعتين يضرب بهما على النحاس فيَصدُر الصوتُ عميقاً وأقوى مما تصور فلا تسمعه في أذنيك وإنما تسمعه داخل قفصك الصدري. وقد حدثني أحد أبناء قبيلة الحُمران لا أذكر من هو وكنا صِبْيَةً، أن النحاس عندما يُضرب فإنه يقول "بَدُور الدّم ، بَدُور الدّم" أي أنه ينادي الرجال لكي يحملوا سيوفهم ويريقوا دماء الأعداء.

2. حبوبة قماشة.
حبوبة قماشة امرأةٌ بجاوية سوداء الإهاب ناحلة الجسم تحمل في يدها اليمنى عصا رفيعة تتوكأ عليها دون أن تهش بها على غنم إذ لم تكن لديها غنم لكن العصا هي ساقها الثالثة حيث أنها كانت متقدمة في العمر. وقد كانت ثياب حبوبة قماشة دائما داكنة مائلة إلى اللون الأخضر الزيتي.


حبوبة قماشة كانت تعمل مشاطة تطلبها النساء لتمشيط شعورهن لقاء أجر غير ثابت في معظم الأحوال فيتباين حسب حالة الزبون أو أنه كما يقولون "عطِيّة مزيِّن". بالطبع لا يتم الطلب عن طريق الهاتف أو ما شابه بل كانت الرسالة تنتقل إلى حبوبة قماشة عبر النساء من مكان إلى مكان حتى تصل إليها في مسكنها في الجهة الغربية من القرية أو أن تسمع المرأة الراغبة في المشاط أن حبوبة قماشة عند فلانة فترسل أحد أطفالها لينقل تلك المعلومة إلى حبوبة قماشة.

وعندما تصل حبوبة قماشة من مشوارها الطويل المرهق لامرأة في سنها وبعد أن تشرب الماء البارد من الزير تشرع صاحبة البيت الراغبة في المشاط في تجهيز أدوات الشغل وأولها عدة القهوة حيث أن حبوبة قماشة بجاوية ولا ترى خيراً في عمل لا تشم في مبتدئه رائحة القلوة (رائحة البن المقلي). وتشمل أدوات القهوة؛ الجبنة الفخارية اللامعة والوقاية التي توضع عليها وهي أشبه بالطوق وتكون مزينة في العادة بالخرز الملون، ثم خرقة مشربة بالزيت تمسح بها الجبنة لتنظيفها مما يعلق بها من الرماد، ثم قلاية البن المصنوعة من الصفيح ثم البكرج (الشرقرق) والمنقد (الكانون) والمَدَق (الهون) والليفة المستخرجة من النخل. أما أدوات المشاط فهي المخرز والكَدَابة (والمخرز قطعة سلك حادة النهاية تشبه إبرةً سميكة مغروزة في قطعة عود تمثل يداً لها ويستخدم في تقسيم الشعر إلى حزم ليتم تمشيطه - وقد كان أحد أصدقائي نحيفاً فكانوا يسمونه مخرز وقد كان يغضب إذا ما نودي بذلك الاسم فيتلفظ - أما الكدابة بفتح الكاف والدال فهي نوع معين من الصمغ يكون مبلولاً في ماء ويشبه في عصرنا الحالي مثبتات الشعر). إضافة إلى تلك الأدوات هنالك البنبر المجلد (مضفور) بالحبل أو بالقِد (الجلد) أحياناً والذي تجلس عليه حبوبة قماشة وتجلس صاحبة الشعر على الأرض أمامها على قطعة من البرش أو الخيش وقد تجلس حبوبة قماشة على عنقريب وتجلس صاحبة الشعر على البنبر وذلك نادر.

وعلى ذكر حبوبة قماشة كانت هنالك امرأة بجاوية أخرى تمر على بيتنا القريب من السوق وتقف عند الباب وتنادي على من في الدار بصوت ناحل "بُرُود تديني، شباك تِمِسْكي" وقد تبدو الجملة بحاجة إلى ترجمة حاذقة لكنها بسيطة، فالمرأة عطشى ولكي تحصل على الماء البارد (بُرُود) فهي تدعو لصاحبة البيت أن يبلّغها الله المدينة المنورة فتمسك بشباك حجرة النبي صلى الله عليه وسلم.

3. المدرسة.
مدرسة ودالحليو الإبتدائية تقع ناحية الجنوب الغربي من بيتنا ولا تفصلنا عنها مسافة بعيدة أو في الحقيقة أن طرف ملعب الكرة التابع للمدرسة يكاد أن يلاصق طرف بيتنا. عندما دخلت المدرسة كان أول مدير هو الأستاذ سراج الدين الجزولي من بورتسودان والذي نقل في ما بعد إلى الشواك ثم استقر أخيراً في بورتسودان. وقد عملت في مطلع التسعينات في بورسودان لفترة عامين فزرته في بيته. إبنه أمين الذي كان زميلاً لنا اقتدى بأبيه فوجدته مدرساً في إحدى مدارس بورتسودان.

كان اسمها وقتذاك مدرسة ود الحليو الابتدائية ثم تحولت إلى مدرسة الصديق


كان الأستاذ سراج الدين رجلاً أنيقاً مهندماً تحتل مقدمة رأسه صلعة واسعة. أما جزمته السوداء ذات المقدمة الرفيعة فهي لامعةًٌ دائماً يغطي الجزء الأعلى منها البنطلون المكوي (سيف). كان ذلك العهد عهد المعونة الأمريكية التي كانت تجلب لنا لبن الجاموس (البودرة) والساردين والجبنة. وقد كان بعض الطلاب لا يأكلون الجبن وبعضهم لا يأكلون الساردين فكان الأستاذ سراج الدين يقف في منتصف الطابور وينادي "اللي ما بياكلش جبنة يجي بي هنا واللي ما بياكلش ساردين يجي بي هنا" ويشير بيده إلى جهتين مختلفتين وكنا نستغرب هذه اللغة ونحن أبناء القرى الذين كنا ندعى إلى الأكل بعبارةٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍ من جنس "قوم إتسمم" عندما نكون في حالة كوننا مغضوباً علينا.

من الأساتذة الذين لن أنساهم الأستاذ المربي بحق الشيخ عبد الباقي الشاورابي الذي درسنا اللغة العربية في السنة الثانية وكان يضربنا عندما نخطئ ثم يخرج ليشتري لنا الطعمية يرضينا بها فكان بذلك يضع السيف في موضع السيف والندى في موضع الندى مضفياً على علاقتنا به نوعاً من الإحساس بالأبوة وراسماً بذلك ذكراه في عقولنا وقد التقيته في القضارف حيث يسكن حي الملك أسأل الله أن يمد في عمره.

وكان هنالك الأستاذ عبد القادر ود الجزار والذي سكنت جواره في بيت خالي مبارك الخضر في المرحلة الثانوية في حي الجباراب بالقضارف. وكان هنالك الأستاذ عمر الحَسِين الذي لحّن لنا نشيد "هذه الدنيا الجميلة بين قفرٍ وخميلة وسماوات ثقيلة كلها من صنع ربّي". وكان هنالك لفيف من الأساتذة ؛ أستاذ كمال بنظاراته السميكة، أستاذ حسين (جون)، الأستاذ أحمد بلال الذي أذكر أنني كتبت موضوعاً إنشائياً عن الرسول صلى الله عليه وسلم قلت فيه "أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان جميلاً خَلقاً وخُلُقاً" فأُعجب أستاذ أحمد بهذه العبارة أيما إعجاب فأمر الطلاب بالتصفيق لي وأهداني علبة ألوان وكراس رسم، الأستاذ حسن السر الذي لا أنسى علقة تلقيتها منه في درس في الحساب، الأستاذ عبد الرحيم زروق والأستاذ أبو سقرة علي جبارة والأستاذ مبارك الخضروالأستاذ عمر عبد الوهاب (قرض) الذي كان مغنياً بارعاً وغيرهم من الأساتذة الذين مروا علينا وأضافوا إلينا من علمهم ومعرفتهم أجزل الله لهم العطاء.

كان فرّاش المدرسة العم نوري أحمد محمد الذي يقوم بفتح الفصول والمكاتب وتنظيف مكاتب المدرسين وقد كان رجلاً هادئ الطبع محمود السيرة.

كانت مدرسة ودالحليو الإبتدائية تضم عددا كبيراً من أبناء القرى المجاورة يسكنون في داخليتها فكان هنالك أبناء الهشابة الذين أذكر منهم هارون موسى وعبد الرحيم حسن أحمد والأخوين اسماعيل أحمد حامد والطاهر أحمد حامد ثم أحمد صغيرون وعبد القادر (دقاش) وكان هنالك آخرون من قرى أخرى مثل قرية عبودة والجيرة ومغاريف.