تزحزح في رقدته قليلاً إلى الوراء. فقد سقطت عليه نقطة من سائل، لعله أحد المارة لم يفلح في أن يجد له مقعداً في حافلة فآثر أن يريح مثانته على طرف هذا الجدول ثم يواصل العراك.
زاد من تكوره على نفسه عندما أحس لسعة البرد على ذراعيه وساقيه التي لم تفلح الملابس البالية في توفير الحماية لها ضد سياط البرد. شعر أيضاً بلسعة الجوع في أمعائه كأن في بطنه رحىً تفتك بها.
الجمعة الشتوية هم كبير، يحسب لها هو ورفاقه ألف حساب، لكنهم ليسوا كالنمل حتى يستطيعوا اكتناز مؤونة للجُمَع الشتوية. فالجمعة عطلة والناس تبقى في بيوتها تفادياً لزحمة المواصلات وإرهاق الميزانيات بمصروفات ترفيه وتظل الكافتيريات مغلِقةً أبوابها فلا يكون هنالك قوت والشتاء لئيم.
تذكر أمه التي افتقدها يوم أن قرر هو ورفاقه اقتحام المدينة لفك طلاسمها وسبر غموضها. ذلك اليوم كان يوماً فاصلاً في حياته حيث تغير كل شيء بدءاً من اسمه الذي كان "نجم الدين" فسماه رفاقه "ود الشيطان" بسبب المشاكل الكثيرة التي كان يجرها عليهم.
قبل أن يغادروا إلى المدينة كانوا يمثلون حرساً لمجموعة الأكواخ المتراصة في هامش المدينة مثل مريض منبوذ. لم يكونوا حرساً حقيقةً إنما جهاز إنذار مبكر، يجتمعون في مشارف الأكواخ يلعبون حتى إذا رأوا الخطر قادماً جروا في الأزقة الضيقة بين الأكواخ يصفقون ويصيحون : "بُمبة .. بمبة... بمبة". تراهم فتخاله جزءاً من لهوهم الطفولي البرئ لكنك إذ تسمع قرقعة الصفيح وقعقعة الأواني تدرك أن في الأمر سراً، وتدرك أن البمبة ليس سوى الشرطة فتهرع النسوة إلى اخفاء العرق وأدواته في مخابئ يعرفنها.
فقد أمه يوم أن قرر هو ورفاقه اقتحام المدينة، عند الظهر غادروا الأكواخ وعند العصر داهم البمبة الأكواخ ولا منذر، أُخد الجميع، أمه مشهود لها بالشراسة والجسارة، حاولت أن تقاوم، باغتها حذاء غليظ في جنبها وعندما سقطت قُذِف بها في العربة. الجميع عادوا إلى أكواخهم في الصباح إلا أمه.
تململ وانقلب على جنبه الآخر، لمست رجله أنف أحد الرفاق، لعله "بوكس" فطنطن صاحب الأنف ثم سكت.
استيقظ مبكراً في الصباح قبل كلاب السوق الضالة وقبل مستجدّي النعمة الذين اغتنوا فجأةً والذين يفتحون دكاكينهم باكراً متلهفين إلى الكسب ومتلذذين بالنظر إلى ما تكدس لديهم.
خرج من النفق فداهمه الهواء البارد، سأل نفسه كيف كانت ستكون الليلة الفائتة بهذا الزمهرير لو لم يجدوا هذا المصرف. انسد المصرف بالأوساخ في مكان ما. فأخذ يلفظ محتوياته القذرة على الأسفلت ، شكاه الناس إلى البلدية فهزت رأسها وانصرفت لتنظيف طريق آخر سيمر به وفد أجنبي. ظل هذا الجزء من النفق جافاً، رب ضارة نافعة.
حرّك جسمه حركات سريعة، هو قصير وربما لم يتجاوز الثانية عشرة، عندما كان في الأكواخ لم يكن يهمه البرد كثيراً. عندما تغرب الشمس ويبدأ الليل بالتسلل إلى العظام كان زوار الليل يبدأون التوافد على الأكواخ ، منهم من يبقى ساعة أو بضع ساعة يحمل مؤونته في بطنه ويخرج مترنحاً أو مستقيما حسب مقدرته الجسمانية وبعضهم يحمل مؤونته في كيس بلاستيكي محكم الربط يخبئه تحت إبطه أو تحت قميصه. هؤلاء الزوار كانوا يجدون لذة خفية في النظر إليه وهو يشرب العرق دون أن ترتجف عضلة في وجهه الصغير فكانوا يناولونه كأساً من حصتهم وينظرون إليه بأفواه مفغورة وهو يبلع الكأس في جرعة واحدة لا يبصق منه نقطة. كان العرق يشيع في جسمه قدراً كبيراً من الدفء.
مرّ بجانبه رجل مقطب الجبين فشم رائحة سيجارة. ومثل كلب داعبت أنفه رائحة طعام تبع الرجل عن كثب. تبعه حتى ألقى بعقب السيجارة فالتقطه ومصه في سرعة خوفاً من أن يشاركه الهواء في حرقه.
فتحت الكافتيريات أبوابها مثل صنارات تحمل طعماً للصيد. بدأ أكلة الساندوتشات يلجون إليها. يمم صوب إحداها ووقف قرب الباب يرقب رجلاً متوسط العمر قد وضع ملفاً مليئاً بالأوراق على الطاولة المثبتة على الحائط واتكأ إلى الملف بكوعه الأيسر ويده اليمنى تمسك بالساندوتش. نظر إليه بعيون غاض عنها صفاء الطفولة وحلّ محله إحمرار ينم عن حياة كدرة وإنسانية سليبة.
تُرى ما الذي سيجعل هذا الرجل يلقي بجزء كبير من الساندوتش. سيحدث ذلك في ثلاث حالات، الأولى أن يكون الرجل غير جائع كثيراً وبالتالي سيشبع سريعاً والثانية أن يكون ما يأكله عادة أجود من هذا الساندوتش وبالتالي سيجده كريهاً فيرمي الجزء الأكبر منه أما الحالة الثالثة فهي أن يكون الساندوتش غير محشو جيداً مما يجعله يلقي بالجزء غير المحشو.
استمر الرجل يقضم الساندوتش حتى أتى عليه وألحقه آخر جرعة من كوب العصير حتى يسهل مروره في بلعومه.
كان صوتٌ مخنثٌ يغني آنذاك في المذياع لأرض خضراء كثيرة الخيرات ليس بها جائع واحد. هل هي الجنة؟ أم أين تكون يا ترى؟؟
حلّت محل الرجل فتاة بدينة مزججة الحواجب. كانت تأكل ببطء كأنها في حالة تأمل وعندما بقي جزء صغير من الساندوتش قذفت به في السلة ونفضت يديها وبسرعة التقطه وتراجع إلى الوراء قليلاً كمن يتوقع ركلة.
عندما مالت الشمس نحو الغرب وامتد الظل باتجاه الشرق جلس مع رفاقه يلعبون بالحصى لعبةً يجلد الفائز فيها الخاسرين على ظهور أيديهم بعدِّ ما خسر كل منهم. نهض وتحرك مبتعداً
_ وين يا أبّا؟
ناداه "بوكس". أجاب دون إكتراث
_ ماشي أفوّر بنز
كانت هنالك بقايا حائط خرب إندسّ وراءها، للحظة كان يبين رأسه مطأطأً كأنه ينظر إلى شيء تحته ثم فجأة اختفى كأنما انشقت الأرض تحته. عاد بعد حين وهو يحك عجيزته فالليل أوشك أن يهبط والبعوض قد بدأ دورة عمله الليلية مبكراً.
بدأ البرد يسترق طريقه إلى العظام استراقاً في البدء، ثم صار يقتحمها مثل غازٍ تمكن من السيطرة على كل القلوع والتحصينات فصار يدخل الدور والبنايات مطمئناً.
جال مع رفاقه بين الكافتيريات المتراصة ونالوا منها ما استطاعوا من بقايا الطعام القليلة مع الكثير من المذلة ثم أووا إلى المصرف تحت الأرض مثل نمل خرافي برجلين.
داخل المصرف كان المكان ضيقاً وهواءٌ بارد يهب من فتحةٍ ما. تكدسوا فوق بعضهم ، البعض يبتغي شيئاً من الدفء وكبار السن لهم مآرب أخرى والليل الشتوي طويل وممل والجوع كافر. فجأة جاءته ركلة من رجل أحد النائمين، ثارت ثائرته فأمسك بالرِجل وعضها فصاح صاحب الرجل ودار العراك في الظلام. كان يقاتل خصماً لا يراه، قاتل بشراسة ووجه ضرباته في كل الاتجاهات وفجأة شعر بأنه يقاتل أكثر من شخص فقرر الخروج من المصرف. تسلل باتجاه فتحة المصرف وترك العراك دائراً ولعل كل واحد من المتقاتلين كان يظن أنه موجود. خرج من المصرف وجلس قريباً من الفتحة فسمع اللغط في الداخل. كان أحدهم يتساءل "وينو ود الشيطان، هو العمل الشنكبة دي؟". نهض وانصرف من المكان مغاضباً.
جاء محمد عامل المطبعة مبكراً في ذلك اليوم. كانت هنالك كروت زواج يجب عليه أن ينجزها باكراً حيث أن العريس شدد عليه أنه سيأتي لاستلامها في العاشرة صباحاً. جاء محمد طمعاً في أن يناله شيء من هذا العريس المبتهج المتلهف لاتمام زواجه.
كانت كومة الورق المتعدد الألوان التي تخلفت عن عمليات الطباعة والتغليف والتي أخرجها أول أمس من المطبعة ما زالت في مكانها ولم يتكرم عمال النظافة الذين يمرون بتراكتور بمقطورة بأخذها من مكانها. أخرج محمد سلسلة المفاتيح من جيبه وبدأ يعالج الأقفال الثلاثة واحداً تلو الآخر وعندما همّ بفتح القفل الأخير تجمدت يده على القفل كأنما صعقته كهرباء. رأى لوناً أحمر يصبغ بعض الأوراق وعندما أمعن النظر رأى أصابع صغيرة تبرز من بين الأوراق. دون أن يشعر وجد نفسه يركض نحو قسم الشرطة القريب من المطبعة.
رُفعت كومة الأوراق، كان ود الشيطان مكوماً وقد تهشم قفصه الصدري. بعد أن غادر المصرف دار في المنطقة بحثاً عن مكان يلتجئ إليه من البرد فلم يجد سوى كومة الأوراق هذه فاندس فيها. مرت سيارة في تلك الليلة وداست على الأوراق وود الشيطان تحتها فمرت على صدره. حملوه في جوال من الخيش وفي قسم الشرطة تم تدوين البلاغ ضد مجهول.
2 تعليقات :
رائعة بروعة من كتبها
لك الود
واصل وامتعنا
لا املك الا ان اقول ياسلاااااااااااام
كنت بوين من اول يازووووووول
قصه رائعه ومحاوله ناضجه وناجحه
الى الاماااام وبالتوفبق
عبدالعزيز القحطاني
إرسال تعليق