تَسَاءَلْتُ بيني وبين نفسي ما الذي أتى بهذا الخواجة إلى هذه البقعة من العالم؟ ما ضره لو أنه بقي في دياره فمات هنالك بدلاً عن أن يموت في أرض لا يربطه بها رابط؟ ثم ما الذي دفعني إلى الإصرار عليه للحضور معي؟ وهل أكون قد تسببت في موته إن هوت هذه الطائرة؟ دارت في رأسي تلك الخواطر عندما ارتجت الطائرة واهتزت اهتزازا عنيفاً دون أن تكون لدينا أدنى فكرة عما يحدث فظن الكثيرون وأنا منهم أنها ستسقط وسنتحول إلى عنوان كبير في الصحف المحلية تسبقه الآية المعروفة من سورة البقرة.
كنت آنئذٍ أعمل في منظمة دولية تعنى بالشئون الثقافية وكنت كثير الترحال رغم أن مقر عملي كان في نيويورك. وكان هذا الأمريكي، جيرالد، زميلي في العمل وربطتني به صداقة فيها عمق إذ لمست فيه ما شدني إليه من شهامة وصدق وقدرة فائقة على تقبل الحقيقة حتى لو كانت تضرب مصلحته في الصميم.
كنت عندما يستبد بي الحنين إلى موطني ومسقط رأسي أروِّح عن نفسي بالحديث عن دياري وأهلي وكان جيرالد يبدي شغفاً غير مفتعل للاستماع إلى ما أقوله وكان في كثير من الأحيان يشير إلى رغبته في زيارة تلك المناطق مشيراً بلباقة إلى أنني قد شوّقته بتلك الحكايات لرؤية ذلك الجزء من العالم. كنت أحدثه عن تلك البلاد، كيف كانت في يوم من الأيام وكيف صارت وأحكي له عن التفاصيل الدقيقة لحياة الناس، أعمالهم وأنشطتهم الاجتماعية وقد كان شغوفاً بتلك التفاصيل وغالباً ما يستزيدني بالسؤال عن أشياء معينة في حياة الناس هناك.
عندما عزمت على التمتع بإجازتي طرحت على جيرالد فكرة أن يأتي معي واعتذر الرجل لكنني أحسست أن اعتذاره مدفوع برغبته في ألا يضايقني أو يثقل علي ولذلك فعلت كل ما بوسعي كي أقنعه أنني سأكون مسروراً لو أنه صحبني في هذه الإجازة وأنها ستكون فرصةً له ليرى جزءاً من العالم لم يره من قبل.
عندما ارتجت الطائرة لم نفهم ما حدث لعدة دقائق كانت أشبه بدهر. لم أتعود في جميع رحلاتي أن يحدث مثل هذا الاهتزاز دون أن يليه توضيح فوري من قمرة القيادة مطمئناً المسافرين على متن الرحلة. بعد تلك الدقائق الطويلة جاء صوت الطيار من مكبرات الصوت "نود أن نطمئن السادة المسافرين بأن ما حدث سببه الظروف الجوية السيئة وسوف نضطر للهبوط في مطار عَبُّودة الإقليمي". التفتَ إلى جيرالد سائلاً عن مطار عبُّودة وكان ذلك طبعه في استدراجي إلى الحديث فتواردت إلى ذهني العديد من الصور.
قلت لجيرالد أن عبودة كانت في يوم من الأيام قرية صغيرة بها مدرسة وشفخانة مبنيتان بالطوب والأسمنت وما عدا ذلك فإن جميع مبانيها من القش. تقع عبودة على الطريق المار من الشواك إلى ودالحليو وتمثل محطة هامة على ذلك الطريق البري غير المسفلت تقف عندها اللوريات المحملة بالركاب والبضائع للتفريغ والتحميل. كانت تلك اللوريات تحمل ما لا يخطر على بال فتجد فيها البشر والأغنام والدجاج وجوالات الذرة والسكر والبن وكراتين البضائع المختلفة والحطب ومواد البناء مثل ألواح الزنك وأكياس الأسمنت وغير ذلك. ويقع في المنطقة المحيطة بعبودة عدد من القرى مثل "أم علي" و "مَيْلَقا" و "كُبُّو قُرْمُو" التي تعتبر عبودة مركزا لها.
كان ذلك منذ زمن ليس ببعيد. أما الآن فإن هذه الصورة أصبحت من الماضي الغابر وتغيرت المنطقة بحيث أنّ من لم يكن يعرفها من قبل لا يمكن له أن يتخيل صورتها مهما كانت قدرة الراوي على التصوير.
عند إكتشاف المخزون الضخم من البوكسيت (خام الألمونيوم) في ذلك الجزء من البلاد دبت الحركة في المنطقة مثل مريض تعافى فجأة بمعجزة. تغير وجه الأرض وتغيرت حياة الناس وتغير كل شيء. اختفت تلك اللوريات المتهالكة وحلت محلها الشاحنات العملاقة والثلاجات المتحركة وخطوط السكة الحديد التي تنقل كميات كبيرة من البضائع. انتشرت شبكة الطرق المسفلتة وغطت المنطقة منهيةً بذلك عهداً كان فيه السفر جهنم نفسها وليس قطعة منها.
كان الطريق الترابي الممتد من الشواك إلى ودالحليو رحلةً من العذاب في كل الفصول. في الصيف كان الطريق مترباً يثور فيه الغبار مع حركة السيارات وتشعر أن السيارة تقفز على الطريق بسبب الحفر الكثيرة وتتمايل بسبب عدم استواء الطريق في معظم أجزائه فيتأرجح الركاب داخل صندوق اللوري وهم متمسكون بالحديد الحامي. وتفعل الشمس فعلها بأشعتها الحارقة التي تسلطها على ركاب اللوري المكشوف فيتصبب العرق وتزيد عصبية الناس وقابليتهم للشجار.
أما في الخريف فإن الحال يختلف مع تلك التربة الطينية (البادوبة) التي تتميز بها المنطقة حيث أن الطريق يتعرج بسبب مياه الأمطار التي تسده في بعض المواضع وتجعل السير فيه مستحيلاً. وفي مثل هذا الوقت فإن الطريق ينحرف بعد قرية عبودة ليدخل في منطقة تغلب عليها المرتفعات المنخفضة (الكَرَب) وتربتها تسمى (العزَازة) مما يجعل حركة اللوري أشبه بحركة مركب في بحر متلاطم الأمواج. وعندما يتعرج الطريق يخرج عن مساره مما يجعله يمر بين أشجار الكِتِرْ والطلح التي تُعمِل أغصانها الشائكة في ملابس الركاب وجلودهم. وفي كثير من الأحيان يتعذر على اللوري الاستمرار في التعامل مع الطريق فيضطر الركاب إلى النزول أو حتى إلى تخفيف حمولة اللوري.
ومع تغير مسار الطريق يفقد بعض الركاب ميزة مرور اللوري بقراهم فيضطرون إلى النزول في مواضع بعيدة لتكملة ما تبقى من الرحلة، طال أو قَصُر، سيراً على الأقدام.
كان جيرالد يستمع باهتمام بالغ وكانت الطائرة في هذه اللحظة قد بدأت تدور كأنها عائدة من حيث أتت. نظر جيرالد من النافذة الصغيرة فرأي خلال الغبش الناتج عن الغبار أضواءاً وأبنيةً لا تبدو مثل بقية المباني في المنطقة فبادرني بالسؤال عن تلك المباني. نظرت من النافذة وابتسمت وأجبته أن هذا "مجمع ميلقا للصناعات الكيماوية".
مرت إحدى المضيفات بجانبي فسألتها لماذا دارت الطائرة تلك الدورة فأجابت بأننا قد تجاوزنا مطار عبودة بسبب ارتفاع الطائرة ولذلك دارت الطائرة للعودة إلى المطار والهبوط بعد تخفيض ارتفاعها تدريجياً.
قلت محدثاً جيرالد أن ميلقا، تلك القرية التي كانت نسياً منسياً تغيرت كلياً. فقد كانت ميلقا في يوم من الأيام عددا من البيوت البائسة التي لا تتجاوز قبضة اليد وتفتقر إلى أبسط مقومات الحياة الإنسانية. لم تكن هنالك عيادة وإنما كان هنالك ممرض غير مرخص يمر على المنطقة بين الفينة والأخرى يحمل شنطة بلاستيكية مهترئة مليئة بأدوية مثل حبوب وحقن الكلوروكين للملاريا وبعض المراهم للجروح يبيعها بأسعار خيالية. ولم تكن هنالك مدرسة ومن رغب في التعليم فعليه أن ينتقل إلى عبودة بما يتضمنه ذلك من مشاق عدة. أما اللواري المسافرة من وإلى ودالحليو فلا تمر بميلقا إلا لماماً.
بدأت الطائرة في الهبوط وعندما نظرت من النافذة بدت لي أضواء مدرج المطار باهتة في عتمة الغبار أما أضواء مدينة عبودة فقد كانت مثل الجمر الذي تغطيه طبقة خفيفة من الرماد فيتوهج في بعض المواضع ويخبو في أخرى.
هذا هو مطار عبودة الإقليمي الذي يقوم على مساحة شاسعة من الأرض تغطيها أقسامه المختلفة التي تشمل صالات القدوم والمغادرة والصالات الخاصة وخدمات الشحن الجوي والمجمعات السكنية لموظفي المطار. عندما هبطنا في المطار أعلنت المضيفة عبر مكبر الصوت أنه غير مسموح للركاب بمغادرة المطار حيث أن الرحلة يمكن أن تقلع في أي لحظة إذا ما تحسنت الظروف الجوية.
سألني جيرالد عن المسافة المتبقية للوصول إلى ودالحليو فقلت له أن المسافة قريبة جداً فنظر إلي وابتسم ثم أردف باقتراح أن نكمل ما تبقى من الرحلة عن طريق أيٍ من وسائل السفر البرية. راقت لي الفكرة خصوصاً وأن هنالك أكثر من خيار منها القطار العادي والقطار الإكسبرس الكهربائي والبصات العادية إضافةً إلى سيارات الأجرة الخاصة. وعندما طرحت عليه تلك الخيارات قال لي أنه يفضل سيارات الأجرة الخاصة حيث أنها تتيح له مشاهدة ما حوله بحرّية إضافةً إلى إمكانية التوقف في أي لحظة.
أكملنا إجراءات تخلفنا عن الرحلة بسرعة حيث أن ذلك الإجراء بسيط للغاية كما أن الموظف المسئول عن ذلك كان متعاوناً جداً وقد عرفت من الكلمات القليلة التي تبادلتها معه أنه من أبناء مدينة عبودة.
استأجرنا سيارة مريحة واسعة وبدأنا رحلتنا التي لا تزيد على ثلث الساعة وطلبنا من السائق أن لا يسرع كثيراً حيث أننا نرغب في رؤية معالم الطريق واستكشافه.
عندما خرجت السيارة من مدينة عبودة كان جيرالد صامتاً ولعله عاد بخياله إلى نيويورك، مما أعطاني فرصةً للانغماس في سيل من الذكريات. مرت السيارة بخور صغير فتذكرت أنني كنت مسافراً يوماً على متن لوري من نوع انقرض اسمه (التيبر). وكان صاحبه يوسف أبو حِجِل من أبناء الشواك. كنت عائداً من الشواك التي كنت أدرس في مدرستها المتوسطة. وقد كان المطر غزيراً في ذلك الموسم وعندما وصلنا هذا الخور انغرزت إطارات اللوري في الوحل وتعذر خروجه رغم المناورات المتعددة التي قام بها السائق. وأخيراً هبط السائق وطلب من الركاب النزول لتخفيف الحمولة ومساعدته في جلب بعض أغصان الأشجار الجافة لوضعها تحت الإطارات.
عندما أشرفنا على ودالحليو التفتَ إلىّ جيرالد وفي عينيه نظرة معتذرة عن مقاطعته لأفكاري وسألني عن مبني يقوم على منطقة مرتفعة في أقصى غرب مدينة ودالحليو وفيه عدد من الأبراج العالية والأطباق الكبيرة. نظرت في الاتجاه الذي أشار إليه وقلت له أن هذا المبنى هو محطة دار الحِلّة للأقمار الصناعية.
وأوضحت لجيرالد أن دار الحلة هي الموقع الأصلي لقرية ودالحليو حيث تأسست هناك على منطقة مرتفعة ويبدو أن مؤسسيها رأوا في ما بعد أن الموقع ليس به مساحة مسطحة كافية لتَوسُّع القرية فانتقلوا إلى الموقع الذي تقوم عليه مدينة ودالحليو الحالية. وظلت دار الحلة مع ذلك مأهولة بعدد قليل من السكان لم يَرُقْ لهم أمر الإنتقال إلى الموقع الجديد.
وبعد إزدهار المنطقة تمت تسوية مساحة واسعة من موقع دار الحلة وأُنشأت فيها محطة الأقمار الصناعية وتطورت المنطقة واتسعت حتى التحمت مع مدينة ودالحليو وأصبحت جزءاً منها فعاد الفرع إلى أصله.
وصلت بنا السيارة إلى الميناء البري لمدينة ودالحليو الذي يمثل تجمعاً لكل وسائل النقل البري ويقع عند مدخل المدينة من الناحية الشمالية وحملتنا سيارة أجرة صغيرة إلى فندق باسلام في وسط المدينة حيث قمنا بالحجز لديهم عن طريق الإنترنت من مطار مدينة عبودة. كان الجناح الذي نزلنا فيه في الفندق مريحاً وكان ذلك أمراً متوقعاً إذ أن شركة ودالعاقب للفندقة وخدمات الضيافة وهي الشركة الماللكة للفندق، تتمتع بموارد ضخمة وإدارة متميزة مما جعل الفندق يقفز خلال عشرة أعوام من تأسيسه إلى مصاف سلاسل الفنادق العالمية فئة الخمس نجوم وأثبت وجوده في عدد من كبريات المدن في العالم. سألت جيرالد عما إذا كانت لديه الرغبة ليبدأ جولته في المدينة هذا المساء فقال أنه متشوق إلى ذلك لكنه لن يفعل ويفضل أن يرتاح في ما تبقى من هذا الليل ووافق ذلك هوىً في نفسي إذ أنني كنت أشعر ببعض التعب فدخلت غرفتي وأخذت حماماً بارداً وغرقت في نوم عميق.
عندما استيقظ جيرالد في الصباح وجدني جالساً أمام التلفاز أشاهد البرامج التي تبثها قناة ودالحليو السياحية وقد أعجب جيرالد كثيراً بتلك البرامج وجودة تصميمها مما حفزه أكثر على زيارة الكثير من المواقع التي شاهدناها على الشاشة. تناولنا إفطاراً خفيفاً ونزلنا لنأخذ السيارة التي استأجرناها من شركة أبو صلاح لتأجير السيارات. لم يكن وسط المدينة مزدحماً بالسيارات مما أثار استغراب جيرالد فأوضحت له أن شبكة الطرق والجسور في هذه المدينة تم تصميمها بواسطة أكبر شركة عالمية متخصصة في هذا المجال واضعةً في الاعتبار توفير العديد من المسارات الرئيسية والجانبية التي تجنب المنطقة الاختناقات المرورية. وتساهم شبكة قطار الأنفاق الحديثة التي تغطي المدينة بكاملها في تخفيف الضغط على الطرق.
أخذْنا الطريق الدائري قاصدين جنوب غرب المدينة حتى وصلنا إلى خزان برناوي وهو سد ضخم أقيم في هذا الموقع لتوليد الطاقة الكهربائية من مياه نهر سيتيت ولتوفير المياه للري ويقابله سد آخر على نهر عطبرة. وتستخدم مياه السدين معاً لري المنطقة الواقعة بين النهرين والتي تحولت إلى مزرعة كبيرة لأشجار السنط تملكها شركة حسين العالمية للأدوية والمستحضرات الطبية والتي تستخدم إنتاج هذه الأشجار من القرض في إنتاج العديد من أنواع الأدوية. وقد ازدهرت أعمال هذه الشركة مع زيادة الوعي بأضرار الأدوية الكيماوية والتوجه نحو استخدام الأدوية المصنّعة من المواد الطبيعية مثل القرض والكركدي والسنامكّة والحرجل.
توقفنا عند مدخل السد حيث كان هنالك عدد من الكافتيريات على جانبي الجسر واقترحت على جيرالد أن نتناول مشروباً فوافق على ذلك. دخلنا إحدى الكافتيريات وجلسنا على إحدى الطاولات. كانت أرضية الكافتيريا من الزجاج المقوى بحيث تسمح للجالس بمشاهدة ماء النهر الذي يتدفق بعنف تحت الكافتيريا مثيراً كمية من الزبد. طلبت فنجاناً من القهوة وطلب جيرالد عصير الجوافة الطازج.
وعلى صوت خرير المياه حدثت جيرالد أن خزان برناوي أخذ اسمه من قرية صغيرة تقع على الضفة الأخرى من النهر. كان موقع الخزان قبل الطفرة الاقتصادية عبارة عن مُشْرَع يعبر منه الناس النهر. في الصيف يكون النهر شبه جاف فيعبره الناس على أقدامهم أما في فصل الأمطار حيث يفيض النهر فتستخدم المراكب التقليدية ذات المجدافين في عبور النهر والتي تحمل الناس وأمتعتهم وماشيتهم.
يونيو 2006م